
مغيبه تماما لا تستطيع ان تنتبه الي شئ مما يحدث حولها فقط تتأمل وجوه المعزين والمعزيات ، نظرت اليهم ببلاهه فلم يكن هناك شيئا ذا اهميه في حياتها بعد رحيله، صورته الملائكيه بوجهه النوراني لا تفارق مخيلتها ، لم تنتبه الا علي صوت الشيخ المنشاوي العذب الذي يخرج من كاسيت في احد اطراف الغرفه وهو يردد الايات الاخيره من سورة الفجر
"يا أيتها النفس المطمئنة ارجعى الى ربك راضية مرضية فادخلى فى عبادى وادخلى جنتى"
صدق الله العظيم
و آخر المعزيات وهي تصافحها وتسكب في أُذنيها عظيم اسفها وخالص تعازيها ، واخيرا ها هي وحيده في هذا البيت الذي جمع بينهما وعاشا فيه ايام عمرهما ، تحيط بهما السعاده من كل جانب ، انفطرت نفسها وتمزق قلبها ، دموعها تنهمر رغما عنها ، انها تخطو خطواتها الاولي الي غرفتهما وحيده بدونه ، وجدت نفسها تلجأ الي النافذه وتفتحها لتنظر الي السماء عبر سواد الليل وتألق النجوم تتضرع الي الله وتنساب دموعها غزيره علي وجنتيها تبكي زوجها المتوفي ، ارتجفت قدماها فألقت بنفسها علي اقرب كرسي ،
إن للموت رهبةٌ وخوف، انشغال وتوتر، تأمل واجم وأفكار سود وصدى قاتل ، انها حائرة ومتوترة وضائعة وخائفة
اتتها الذكريات وميض خاطف كالبرق....من يوم زواجهما ...حتي يوم وافته المنيه كانت حياتهما ملحمه كاملة ورائعه من الحب والاخلاص والتفاني.... ثم اخذت تحدث نفسها والعبرات تخنق صوتها :
لقد راينا الله في مختلف مراحل حياتنا ، راينا عجائب قدرته ، كان معنا في كل محنه وكرب ونجانا من كل المهالك ، ولم يفرق بيننا حتي في احلك الظروف ...اللهم اني احتسبه عندك ، اللهم ارجع نفسه اليك راضية مرضيه وادخله برحمتك في عبادك الصالحين
خمسة وعشرون عاما مرت يا حبيبي كنت لي فيها كل شئ ..ابي ، امي ، زوجي ، عشيقي ، صديقي ، اخي ، وحتي ابني ..كنت كل اهلي ولا اعرف في الدنيا سواك حبك اخترق قلبي دون إذن مني وجدتني احبك بكل جوارحي
تذكرت عندما تخرج في كلية الطب ثم هرول اليها ليعلن لها عن حبه وعن عزمه ان يتقدم لطلب يدها من ابيها ، و رغبته في ان يجمعهما بيت واحد الي الابد ، وكيف سرت في جسدها رعشة اضطراب وفي عينيها نظرة خجل واستحياء ، وفي قلبها فرحه لم يعرفها من قبل ، يومها رجعت الي بيتها تحمل له المزيد من الشوق والحنين ، انه ارق قلب واعذب انسان راته عيناها ،
لم يطرق قلبها غيره ، ومنذ ان كانت طفله صغيره لم تري في عالمها رجلا سواه ، فهو إبن اعز اصدقاء والدها كما انهما يسكنان في نفس الشارع الذي شهد رحلة حياتهما منذ ان كانا طفلين، الي اليوم الذي ضم فيه عرسهما بين جنباته
لقد كان شابا طيبا ومتدينا وعلى خلق ومن أسرة طيبة .واثق من نفسه ، طموح ، غير خجل من إمكانياته ، له نظرة إلى المستقبل وإلى الحياة ، لم يرغب في الاعتماد علي ابيه كما يفعل معظم الشباب في سِنَه ، كان دائما يردد :
يكفي ان ابي قد افني عمره ليراني انا ابنه البكري طبيبا ، عليّ ان اكمل المسيره معتمدا علي نفسي ، عليّ ان اصبح من امهر الاطباء حتي اكمل لابي حلمه
عندما تقدم لطلب يدها لم يكن يملك الكثير فقط امكانيات اقل من العاديه ، ولكنه وعد اباها ان يسعي جاهدا ليحقق لها السعاده والمستوي المادي المعقول في اقل فتره ممكنه ، مؤكدا ان المال وحده لا يصنع السعاده ، وانه لو اراد الحصول علي المال لسعي الي السفر الذي لم يكن صعبا بالنسبه له ، بل عُرض عليه اكثر من مره وبشروط مجزيه ولكنه يأبي هذا المنطق ....يسافر ...ربما ....ولكن بعد ان يكون قد اثبت ذاته وكفائته هنا اولا
وافق اباها ، واخيرا جمعهما بيت واحد، وبالرغم من كونه منزل بسيط في حي شعبي داخل حاره بسيطه الا انهما خطا فيه معا اول خطوات السعاده ،
تذكرت احساسها بالنشوة والسعاده والحبور الذي لم تذق قط مثله في حياتها الا عندما جمعهما هذا البيت المتواضع
كان يسعي الي النجاح ويمتلك طموحا وطاقات كبيره وقوي خفيه اما هي فكانت تمتلك تضحيه وصبر وايمان شديد به وبمقدرته علي النجاح ، وقفت خلفه تساعده وتشد من ازره كانت له رفيقة الكفاح كما كانت رفيقة السعاده ، وباقل الامكانات وبتشجيع منها ، اقطتع غرفه من بيتهما المتواضع ليفتتح فيها عيادته البسيطه ويبدأ عمله من خلالها ، كان يتفاني في عمله يفني عمره من أجلها
تذكرت كيف كان يتقدم في عمله بثبات وخطوات واسعه ، وكيف اصبحت ايامهما احتفالات دائمه وشكر لله علي نعمه التي اسبغها عليهما ، كانت تشاركه بكل ما تستطيع من مجهود وطاقه ، علمها مبادئ التمريض ، حتي اصبحت مساعدته الاولي وذراعه اليمني ، ارادت ذلك - بالرغم من المشقه - كي لا تفارقه حتي في اوقات عمله كانت مؤمنه به الي اقصي الحدود ، لم تكن تيأس او تمل ..اخذ اسمه يلمع ويصعد الي عنان السماء ، وكانت راضية سعيده بذلك كل السعاده
ومع الوقت اصبح من اشهر اطباء النساء و التوليد في بلدته الصغيره ، تأتيه النساء من كل مكان ، فقد كان مشهود عنه الكفائه والدقه الشديده في عمله
لم يعكر صفو ايامهما او سعادتهما شئ ، الا تأخر الانجاب ، الذي شاء الله ان يحرمهما منه
بالنسبه لها لم يكن هناك ما يعيق الانجاب ، اما هو فقد كانت ارادة الله العلي القدير ان يكون هذا الطبيب الذي ياتي الدنيا علي يديه مئات الاطفال لا يستطيع ان يمتلك حتي طفلا واحدا يملأ قلبه فرحه وينشر السعاده حوله اينما ذهب ، وكعادتها دائما كانت نعم العون والسند له في هذه المحنه الجديده ،
تذكرت قوله لها ، لا استطيع ان اتخيل انني سامنعك هذه النعمة التي خُلقت لتملأ قلوب البشر بالسعادة و الأمل ، ثم إن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها ، يمكنك ان تبدأي حياتك مع شخص آخر يحقق لك حلمك في امتلاك طفل ....
لم تستطع ان تتخيل كيف تكون لغيره ، وكيف له ان يفكر في ان يتركها بهذه السهوله ...انها لاترى بعالمها غيره ولا تستطيع الاستغناء عنه لو لحظات ، اخبرته انها استغنت به عن كل اطفال العالم ، وانه من هذه اللحظه هو زوجها وحبيبها وابنها ، وانها لا تريد من الدنيا سواه
قال لها المال والبنون زينة الحياة الدنيا
قالت له ولكن الباقيات الصالحات خير عند الله ثوابا وخير املا
عانقها والدمع يخط مجراه علي وجهيهما ووعدها ان يجعلها اسعد امرأة في العالم ، وكان عند وعده لها ، أحبها وعشقها وتملكت كل جوارحة وأصبح يراها في صحوة ومنامة بل أصبح لا يرى غيرها فهو يرى الحياة وينظر إليها من خلالها
براءة ملامحها وسكينة تفاصيلها ووداعة حديثها والتفاتتها وحركاتها ، هو يعشقها بلا حدود ، و هي متيمه في عشقه وحبه ..اصبحوا روحين في جسد ،
تذكرت كيف من الله عليهما بالنجاح والثروه ، وكيف ذاع صيته واصبح في سنوات معدوده طبيب النساء الاول في المحافظه باكملها ،انتقلا من منزلهما المتواضع في الحي الشعبي الي فيلا جميله في ارقي احياء المدينة ، ولانه لا يريد ان يفارقها لحظه ، وهي كذلك ، جعل عيادته ملحقه بالفيلا بباب منفصل
تذكرت كيف اخذها في اجمل واقدس رحله في الحياه ، رحلة الحج ، وكيف كان يأخذها سنويا لاداء العمره
وكيف عاشا معا سنوات جرت مسرعة كجريان النهر في فيضانه ، مرت كأيام من الخيال والأحلام تضمهم السعادة ويحفهم الحب ويلفحهم الشوق ويؤرقهم الحنين ، قدمت له كل حبها واهتمامها ، وقدم لها روحه ونفسه و كل ما يملك في هذه الدنيا حتي كان ذلك الحدث الذي قلب حياتهما رأسا علي عقب
لقد فقد روحه وانهارت عزيمته عندما اخترق مسامعه قول الاطباء : أن زوجتك مصابة بأورام خبيثة لا علاج لها ، ولا أمل في شفاء منها ..
لم تكن هي الضحية الأولى التي يداهمها ذلك المرض اللئيم في المحيط القريب، لكن الأمر معها بالنسبة له مختلف فهي لم تكن مريضة بنوبة برد ، أو انفلوانزا ، ستشفي منها بعد قليل وإنما كان الورم الخبيث يستشري في كل جسدها لعنة الالم ظلت تطاردها وكاد المرض ان ينال من ارادتها ولكنها تماسكت و تشبثت بالحياه من اجله هو فقط
وقف ساكنا ولم يهمس بشيء ظل يتأمل فيها طوال الوقت وكأنه يقول لها هل ستذهبين وتتركينني هنا وحيداً واقفاً متأملا ثم يصمت مجددا وكأنه يستعد لتشييع لحظات الفرح التي عاشاها معا ،
لقد قرر الاطباء أنها مصابة بأورام خبيثة ، وأن موقع الورم في غاية الخطورة .. وأنه لا أمل في العلاج
بالرغم من ذلك لم يفقد الامل وبالرغم من تحذيرات الاطباء من المضي في رحله العلاج المرهقه ماديا وجسديا لها الا انه ابي ان يستسلم ، ظل متمسكا بالامل في رحمة الله الواسعه ، كان يسابق الزمن ويصارع طواحين الهواء ويبذل اقصي من المستحيل نفسه ، فقط ليراها سليمه معافاه مره اخري
وتمر الايام والآلام الرهيبه تنهش جسدها الضئيل ،كانت تعيش لحظات عصيبة وزمناً مسموماً وحياة لا تحسد على ما تبقّى منها ،وبدأ الجميع يدعو لها بالرحمه والخلاص من هذا العذاب اللا نهائي فلم يعد ثمة امل في الشفاء وانما رجاء في رحمة الآخره
ومع كل ذلك ظلت صامده امام المحنه وشدة البلاء ،تحتسب الاجر والثواب عن الله سبحانه وتعالي و تدعوه ان يرحمها من اجله ، تدعوه أن يخرجهما من تلك الأزمة والحيرة فحياتهما ملتصقة ببعضهما وارواحهما متشابكة كأغصان الشجر المورقة.
وبالرغم من انها حاولت ان تعطيه دفعة معنوية الا انه وكما هو معروف فان بداية كل نهاية في حياة أنسان هي ألانهزام وهذا ما تولد في حياته ، فلقد انهزم عندما شعر انها ستفارقه عما قريب ، اصبح متجهماً خالي من الاحاسيس لا يستطيع ان يتخيل أن هذه الدنيا و رغما عنه ستأخد منه أعز انسانه ، اخذ يقتل نفسه في العمل حتي ينسي ،
تذكرت ذلك اليوم عندما رجع إلي البيت ليأخذ قسطاً من الراحه ولكنها كانت راحه ممزوجه بالقلق فقد كان يتقلب ذات اليمين وذات الشمال ، مرضها جعله في حاله من القلق اللامتناهي ..فحياته متعلقه بها ولا يستطيع ان يحيا بدونها
اغمض عينيه وفكرة موتها لا تفارقه .....قبل موعد نزوله المسائي لعيادته ، دخلت عليه توقظه ولكنه لم يستيقظ ، شلتها المفاجأه واخذت كلماته الاخيره ترن في إذنيها :
لو أن أحد منا يجب أن يموت ، لو يجب ان نفترق لأن أحدنا قد انتهت مهمته في الحياة عند هذا الحد ، أليس من الأولى أن يكون أنا الذي يموت ؟....لقد فضل ان يفارق الدنيا علي ان يعيشها بمفرده
مر عليها شريط الذكريات وجسدها ملقي علي هذا الكرسي في احد جوانب الغرفه المظلمه ، وكأنه قد بدأ العد التنازلي لمشوار حياتها
ظلت علي هذه الحاله اكثر من اسبوع وهي تسترجع يوميا حياتها معه بحلوها ومرها ، انهارت مقاومتها واشتدت عليها الآلام
اخذت تناجي ربها وتتضرع اليه : يارب اللهم يا من وسعت رحمته كل شئ ، ارحم عبده فقيره ضعيفه من عبادك ، اللهم لا تتركني في شقائي وآلامي اللهم اجمعني به في جنات العلي
ثم استدارت إلى القبلة، ونامت، و برزت على وجهها علامة الارتياح الي الابد ، فاضت روحها الي بارئها غادرت هذا الجسد لتلتقي بحبيب روحها في جنة الخلد ان شاء الله
-------------------------------
ملحوظة : هذه القصه مبنية علي احداث حقيقيه
"يا أيتها النفس المطمئنة ارجعى الى ربك راضية مرضية فادخلى فى عبادى وادخلى جنتى"
صدق الله العظيم
و آخر المعزيات وهي تصافحها وتسكب في أُذنيها عظيم اسفها وخالص تعازيها ، واخيرا ها هي وحيده في هذا البيت الذي جمع بينهما وعاشا فيه ايام عمرهما ، تحيط بهما السعاده من كل جانب ، انفطرت نفسها وتمزق قلبها ، دموعها تنهمر رغما عنها ، انها تخطو خطواتها الاولي الي غرفتهما وحيده بدونه ، وجدت نفسها تلجأ الي النافذه وتفتحها لتنظر الي السماء عبر سواد الليل وتألق النجوم تتضرع الي الله وتنساب دموعها غزيره علي وجنتيها تبكي زوجها المتوفي ، ارتجفت قدماها فألقت بنفسها علي اقرب كرسي ،
إن للموت رهبةٌ وخوف، انشغال وتوتر، تأمل واجم وأفكار سود وصدى قاتل ، انها حائرة ومتوترة وضائعة وخائفة
اتتها الذكريات وميض خاطف كالبرق....من يوم زواجهما ...حتي يوم وافته المنيه كانت حياتهما ملحمه كاملة ورائعه من الحب والاخلاص والتفاني.... ثم اخذت تحدث نفسها والعبرات تخنق صوتها :
لقد راينا الله في مختلف مراحل حياتنا ، راينا عجائب قدرته ، كان معنا في كل محنه وكرب ونجانا من كل المهالك ، ولم يفرق بيننا حتي في احلك الظروف ...اللهم اني احتسبه عندك ، اللهم ارجع نفسه اليك راضية مرضيه وادخله برحمتك في عبادك الصالحين
خمسة وعشرون عاما مرت يا حبيبي كنت لي فيها كل شئ ..ابي ، امي ، زوجي ، عشيقي ، صديقي ، اخي ، وحتي ابني ..كنت كل اهلي ولا اعرف في الدنيا سواك حبك اخترق قلبي دون إذن مني وجدتني احبك بكل جوارحي
تذكرت عندما تخرج في كلية الطب ثم هرول اليها ليعلن لها عن حبه وعن عزمه ان يتقدم لطلب يدها من ابيها ، و رغبته في ان يجمعهما بيت واحد الي الابد ، وكيف سرت في جسدها رعشة اضطراب وفي عينيها نظرة خجل واستحياء ، وفي قلبها فرحه لم يعرفها من قبل ، يومها رجعت الي بيتها تحمل له المزيد من الشوق والحنين ، انه ارق قلب واعذب انسان راته عيناها ،
لم يطرق قلبها غيره ، ومنذ ان كانت طفله صغيره لم تري في عالمها رجلا سواه ، فهو إبن اعز اصدقاء والدها كما انهما يسكنان في نفس الشارع الذي شهد رحلة حياتهما منذ ان كانا طفلين، الي اليوم الذي ضم فيه عرسهما بين جنباته
لقد كان شابا طيبا ومتدينا وعلى خلق ومن أسرة طيبة .واثق من نفسه ، طموح ، غير خجل من إمكانياته ، له نظرة إلى المستقبل وإلى الحياة ، لم يرغب في الاعتماد علي ابيه كما يفعل معظم الشباب في سِنَه ، كان دائما يردد :
يكفي ان ابي قد افني عمره ليراني انا ابنه البكري طبيبا ، عليّ ان اكمل المسيره معتمدا علي نفسي ، عليّ ان اصبح من امهر الاطباء حتي اكمل لابي حلمه
عندما تقدم لطلب يدها لم يكن يملك الكثير فقط امكانيات اقل من العاديه ، ولكنه وعد اباها ان يسعي جاهدا ليحقق لها السعاده والمستوي المادي المعقول في اقل فتره ممكنه ، مؤكدا ان المال وحده لا يصنع السعاده ، وانه لو اراد الحصول علي المال لسعي الي السفر الذي لم يكن صعبا بالنسبه له ، بل عُرض عليه اكثر من مره وبشروط مجزيه ولكنه يأبي هذا المنطق ....يسافر ...ربما ....ولكن بعد ان يكون قد اثبت ذاته وكفائته هنا اولا
وافق اباها ، واخيرا جمعهما بيت واحد، وبالرغم من كونه منزل بسيط في حي شعبي داخل حاره بسيطه الا انهما خطا فيه معا اول خطوات السعاده ،
تذكرت احساسها بالنشوة والسعاده والحبور الذي لم تذق قط مثله في حياتها الا عندما جمعهما هذا البيت المتواضع
كان يسعي الي النجاح ويمتلك طموحا وطاقات كبيره وقوي خفيه اما هي فكانت تمتلك تضحيه وصبر وايمان شديد به وبمقدرته علي النجاح ، وقفت خلفه تساعده وتشد من ازره كانت له رفيقة الكفاح كما كانت رفيقة السعاده ، وباقل الامكانات وبتشجيع منها ، اقطتع غرفه من بيتهما المتواضع ليفتتح فيها عيادته البسيطه ويبدأ عمله من خلالها ، كان يتفاني في عمله يفني عمره من أجلها
تذكرت كيف كان يتقدم في عمله بثبات وخطوات واسعه ، وكيف اصبحت ايامهما احتفالات دائمه وشكر لله علي نعمه التي اسبغها عليهما ، كانت تشاركه بكل ما تستطيع من مجهود وطاقه ، علمها مبادئ التمريض ، حتي اصبحت مساعدته الاولي وذراعه اليمني ، ارادت ذلك - بالرغم من المشقه - كي لا تفارقه حتي في اوقات عمله كانت مؤمنه به الي اقصي الحدود ، لم تكن تيأس او تمل ..اخذ اسمه يلمع ويصعد الي عنان السماء ، وكانت راضية سعيده بذلك كل السعاده
ومع الوقت اصبح من اشهر اطباء النساء و التوليد في بلدته الصغيره ، تأتيه النساء من كل مكان ، فقد كان مشهود عنه الكفائه والدقه الشديده في عمله
لم يعكر صفو ايامهما او سعادتهما شئ ، الا تأخر الانجاب ، الذي شاء الله ان يحرمهما منه
بالنسبه لها لم يكن هناك ما يعيق الانجاب ، اما هو فقد كانت ارادة الله العلي القدير ان يكون هذا الطبيب الذي ياتي الدنيا علي يديه مئات الاطفال لا يستطيع ان يمتلك حتي طفلا واحدا يملأ قلبه فرحه وينشر السعاده حوله اينما ذهب ، وكعادتها دائما كانت نعم العون والسند له في هذه المحنه الجديده ،
تذكرت قوله لها ، لا استطيع ان اتخيل انني سامنعك هذه النعمة التي خُلقت لتملأ قلوب البشر بالسعادة و الأمل ، ثم إن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها ، يمكنك ان تبدأي حياتك مع شخص آخر يحقق لك حلمك في امتلاك طفل ....
لم تستطع ان تتخيل كيف تكون لغيره ، وكيف له ان يفكر في ان يتركها بهذه السهوله ...انها لاترى بعالمها غيره ولا تستطيع الاستغناء عنه لو لحظات ، اخبرته انها استغنت به عن كل اطفال العالم ، وانه من هذه اللحظه هو زوجها وحبيبها وابنها ، وانها لا تريد من الدنيا سواه
قال لها المال والبنون زينة الحياة الدنيا
قالت له ولكن الباقيات الصالحات خير عند الله ثوابا وخير املا
عانقها والدمع يخط مجراه علي وجهيهما ووعدها ان يجعلها اسعد امرأة في العالم ، وكان عند وعده لها ، أحبها وعشقها وتملكت كل جوارحة وأصبح يراها في صحوة ومنامة بل أصبح لا يرى غيرها فهو يرى الحياة وينظر إليها من خلالها
براءة ملامحها وسكينة تفاصيلها ووداعة حديثها والتفاتتها وحركاتها ، هو يعشقها بلا حدود ، و هي متيمه في عشقه وحبه ..اصبحوا روحين في جسد ،
تذكرت كيف من الله عليهما بالنجاح والثروه ، وكيف ذاع صيته واصبح في سنوات معدوده طبيب النساء الاول في المحافظه باكملها ،انتقلا من منزلهما المتواضع في الحي الشعبي الي فيلا جميله في ارقي احياء المدينة ، ولانه لا يريد ان يفارقها لحظه ، وهي كذلك ، جعل عيادته ملحقه بالفيلا بباب منفصل
تذكرت كيف اخذها في اجمل واقدس رحله في الحياه ، رحلة الحج ، وكيف كان يأخذها سنويا لاداء العمره
وكيف عاشا معا سنوات جرت مسرعة كجريان النهر في فيضانه ، مرت كأيام من الخيال والأحلام تضمهم السعادة ويحفهم الحب ويلفحهم الشوق ويؤرقهم الحنين ، قدمت له كل حبها واهتمامها ، وقدم لها روحه ونفسه و كل ما يملك في هذه الدنيا حتي كان ذلك الحدث الذي قلب حياتهما رأسا علي عقب
لقد فقد روحه وانهارت عزيمته عندما اخترق مسامعه قول الاطباء : أن زوجتك مصابة بأورام خبيثة لا علاج لها ، ولا أمل في شفاء منها ..
لم تكن هي الضحية الأولى التي يداهمها ذلك المرض اللئيم في المحيط القريب، لكن الأمر معها بالنسبة له مختلف فهي لم تكن مريضة بنوبة برد ، أو انفلوانزا ، ستشفي منها بعد قليل وإنما كان الورم الخبيث يستشري في كل جسدها لعنة الالم ظلت تطاردها وكاد المرض ان ينال من ارادتها ولكنها تماسكت و تشبثت بالحياه من اجله هو فقط
وقف ساكنا ولم يهمس بشيء ظل يتأمل فيها طوال الوقت وكأنه يقول لها هل ستذهبين وتتركينني هنا وحيداً واقفاً متأملا ثم يصمت مجددا وكأنه يستعد لتشييع لحظات الفرح التي عاشاها معا ،
لقد قرر الاطباء أنها مصابة بأورام خبيثة ، وأن موقع الورم في غاية الخطورة .. وأنه لا أمل في العلاج
بالرغم من ذلك لم يفقد الامل وبالرغم من تحذيرات الاطباء من المضي في رحله العلاج المرهقه ماديا وجسديا لها الا انه ابي ان يستسلم ، ظل متمسكا بالامل في رحمة الله الواسعه ، كان يسابق الزمن ويصارع طواحين الهواء ويبذل اقصي من المستحيل نفسه ، فقط ليراها سليمه معافاه مره اخري
وتمر الايام والآلام الرهيبه تنهش جسدها الضئيل ،كانت تعيش لحظات عصيبة وزمناً مسموماً وحياة لا تحسد على ما تبقّى منها ،وبدأ الجميع يدعو لها بالرحمه والخلاص من هذا العذاب اللا نهائي فلم يعد ثمة امل في الشفاء وانما رجاء في رحمة الآخره
ومع كل ذلك ظلت صامده امام المحنه وشدة البلاء ،تحتسب الاجر والثواب عن الله سبحانه وتعالي و تدعوه ان يرحمها من اجله ، تدعوه أن يخرجهما من تلك الأزمة والحيرة فحياتهما ملتصقة ببعضهما وارواحهما متشابكة كأغصان الشجر المورقة.
وبالرغم من انها حاولت ان تعطيه دفعة معنوية الا انه وكما هو معروف فان بداية كل نهاية في حياة أنسان هي ألانهزام وهذا ما تولد في حياته ، فلقد انهزم عندما شعر انها ستفارقه عما قريب ، اصبح متجهماً خالي من الاحاسيس لا يستطيع ان يتخيل أن هذه الدنيا و رغما عنه ستأخد منه أعز انسانه ، اخذ يقتل نفسه في العمل حتي ينسي ،
تذكرت ذلك اليوم عندما رجع إلي البيت ليأخذ قسطاً من الراحه ولكنها كانت راحه ممزوجه بالقلق فقد كان يتقلب ذات اليمين وذات الشمال ، مرضها جعله في حاله من القلق اللامتناهي ..فحياته متعلقه بها ولا يستطيع ان يحيا بدونها
اغمض عينيه وفكرة موتها لا تفارقه .....قبل موعد نزوله المسائي لعيادته ، دخلت عليه توقظه ولكنه لم يستيقظ ، شلتها المفاجأه واخذت كلماته الاخيره ترن في إذنيها :
لو أن أحد منا يجب أن يموت ، لو يجب ان نفترق لأن أحدنا قد انتهت مهمته في الحياة عند هذا الحد ، أليس من الأولى أن يكون أنا الذي يموت ؟....لقد فضل ان يفارق الدنيا علي ان يعيشها بمفرده
مر عليها شريط الذكريات وجسدها ملقي علي هذا الكرسي في احد جوانب الغرفه المظلمه ، وكأنه قد بدأ العد التنازلي لمشوار حياتها
ظلت علي هذه الحاله اكثر من اسبوع وهي تسترجع يوميا حياتها معه بحلوها ومرها ، انهارت مقاومتها واشتدت عليها الآلام
اخذت تناجي ربها وتتضرع اليه : يارب اللهم يا من وسعت رحمته كل شئ ، ارحم عبده فقيره ضعيفه من عبادك ، اللهم لا تتركني في شقائي وآلامي اللهم اجمعني به في جنات العلي
ثم استدارت إلى القبلة، ونامت، و برزت على وجهها علامة الارتياح الي الابد ، فاضت روحها الي بارئها غادرت هذا الجسد لتلتقي بحبيب روحها في جنة الخلد ان شاء الله
-------------------------------
ملحوظة : هذه القصه مبنية علي احداث حقيقيه